قصة النمرود بن كنعان


"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"

النُمْرُود بن كنعان، ملك جبار تحدى الله بنائه برج بابل، كما يتضح من قصته التي ذٌكرت في 
 
سورة البقرة، ومناظرته مع إبراهيم الخليل عندما أراد أن ينازع الله سبحانه وتعالي في العظمة والكبرياء فادعى الربوبية، وهوَ أحدُ العبيد الضعفاء.
 
فماذا فعل الله به جزاءاً لكفره ؟
 
وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا 
 
 
فيما ذكروا أربعة: مؤمنان وكافران. فالمؤمنان (ذو القرنين وسليمان) والكافران (النمرود وبختنصّر)..

 
وكان طغا وبغا، وتجبر وعتا، وآثر الحياة الدنيا،ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا 
شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على الإنكار، فحاجّ إبراهيم الخليل في ذلك وادعى 
 
لنفسه الربوبية. فلما قال الخليل : "ربي الذي يحي ويميت" قال : (أنا أحي وأميت).

قال قتادة والسُّدِّي ومُحَمْد بن إسحاق : يعني أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر.

فقول هذا الملك الجاهل (أنا أحيي وأميت) إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند، 
 
وإن عنى ما ذكره قتادة والسُّدِّي ومُحَمْد بن إسحاق فلم يقل شيئاً يتعلق بكلام الخليل إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل.

ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً 
آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادّعاه النمرود وانقطاعه جهرة: قَال: "فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ 
 
مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ" أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها 
 
خالقها ومسيرها وقاهرها. وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء. فإن كنت كما زعمت من أنك 
 
الذي تحي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإنّ الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا 
 
يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم 
 
تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل أحد، أنك لا تقدر على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل 
 
من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها.

                   
فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام 
 
يجيب الخليل به بل انقطع وسكت .. ولهذا قال: "فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".

وقد ذكر السُّدِّي : أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود، يوم خرج من النار، ولم يكن اجتمع به يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة

وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم: أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس 
 
يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ولم يكن اجتمع به إلا يومئذ، فكان بينهما 
 
هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام.

فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال: اشغل أهلي إذا قدمت عليهم، 
 
فلما قدم: وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً، فعملت منه طعاماً. فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال: أنى لكم هذا؟ قالت : 
 
من الذي جئت به فعرف أنه رِزْقٌ رَزقَهُموه الله عز وجل.

قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبّار ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه 
 
الثانية فأبى عليه، ثم دعاه الثالثة فأبى عليه وقال : إجمع جموعك وأجمع جموعي.

فجمع النمرود جيشه وجنوده، وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذباباً من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاماً باديةً ، ودخلت 
 
واحدةٌ منها في منْخَار الملكِ فمكثت في منخاره أربعمائة سنة ، عذبه الله تعالى بها فكان يُضْرَبُ رأسُه بالمرِازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها.